المنجل الحاد ... رموز الحكمة في الكتاب المقدس





يعتبر رمز " المنجل الحاد" من الرموز المبهمة لدى الباحثين والمفسرين للكتاب المقدس وحيث ان رسالة المسيح له المجد عرفت منذ فجر بزوغها انها رسالة المحبة والسلام ولا مكان للعنف او القتل او اي اشارة للقتال بكل انواعه ، ومع هذا نجد في بعض الاسفار المقدسة نصوص تحتوي على اشارة مضمنة او مبطنة لحركة العنف او القتال في ظرف من الظروف خصوصاً ما يتعلق منها بالدينونة والأزمنة الأخيرة ، ولكن الكاتبين في هذا المجال عرفوا كيف يتخلصون من هذه الزاوية الصعبة في فهم رسالة المسيح له المجد التي تدعو للسلام لان بعض نصوص انجيله المبارك تحمل معان يمكن وصفها انها تحاكي العنف او القتال في وجه على الأقل واحد يضاف الى الوجوه الاخرى التي كشفته رسالة المخلص الالهي للعالم . فنجدهم يفسرون عبارة المنجل الحاد انه خاص بالدينونة وانها اشارة رمزية للحصاد المعنوي الذي سيقوم به الرب في مجيئه الثاني ليدين العالم وينتقي مختاريه بين الناس ، اذ لا مكان للعنف او القتال او اراقة الدماء في اي وجه من الوجوه ولا يمكن قبول هذا الفهم اطلاقاً وعلى مر التأريخ فالحصاد مرتبط بالزرع وما زرعه المسيح في نفوس اتباعه عبر الازمان هو السلام والود وتقبل الآخر والصفح عن المسيء مهما كانت درجة الاساءة .
الا اننا نقول ان الذي غاب عن اذهان المفسرين من آباء الكنيسة او من كتب بهذا الصدد من الاقلام التابعة للفكر الكنسي التقليدي ، هو ان المقاربة بين العصرين او المجيئين ( الأول والثاني) غير صحيحة بالمرة ، والاصح ان نستبدلها بكلمة " المقارنة " لان هنالك فوارق واضحة بين زمان المجئ الاول الذي شهد الرسالة المسيحية الأولى وبين زمان المجيء الأخير ، فالمجيء الاول كان للكرازة واعلان بدأ الخلاص على يد مسيح الرب الذي وعدت به الاسفار القديمة في نبوءاتها ، وهو يعني المحبة والسلام والتعامل مع الناس باللين والعطف والرفق حيث احتاج المسيح بمعنى اوضح الى تمهيد النفوس آنذاك لتقبل اطروحة الخلاص ولكي تكون تلك النفوس البشرية على مدى قرون من الزمان جيلاً بعد جيل اكثر فهماً لفحوى الرسالة الالهية القائمة على اساس محبة الانسان لأخيه الانسان مهما سآءت العلاقة بين الاثنان لأسباب موضوعية خاصة وايضاً لكي تأخذ تلك الرسالة المقدسة عمقها داخل العقل الانساني والروح والقلب جنباً الى جنب .
واما المجيء الثاني فهو يختلف بشكل كبير ، لأنه يأتي بعد سلسلة اخفاقات بشرية متلاحقة على يد الانظمة الوضعية وبمساندة ومعية المؤسسة الدينية التي اعطت الشرعية لتلك الانظمة المتغطرسة لممارسة شتى انواع الظلم والجور والقتل والدمار والفساد على مدى قرون من الزمن ، لذلك نجد تلك النصوص التي تعزف بنسق لو صحت العبارة مختلف عن سمفونية احداث وروحية واسلوب المجيء الأول للسيد المسيح له المجد صاحب رسالة السلام ، ولو قلت عكس ذلك اذن تحتاج ان تفسر لي معنى كلمة (السيف) التي اشار لها المسيح في انجيله عدة مرات !...واحتاج منك تفسير موضوعي واقعي محترم لعبارة "النار والاضطرام" وعبارة " المنجل الحاد " التي هي موضوع البحث كما سنفهم في الاسطر اللاحقة .
اذن نفهم بالمحصلة ان المجئ الثاني مختلف تماماً عن نظيره الأول من خلال طريقة الدعوة والحوار وتأسيس مملكة الآب والتحديات والحروب والقتل والدماء !...نعم ..انها عناوين اجنبية عن ذهن المسيحي الذي لا زال يقبع تحت خيمة الفهم الكلاسيكي للنص الانجيلي .
اما عن اسباب هذا الفرق الواضح بين المجيئين فنقول ان الظلم المتفشي والمنتشر كالسرطان في الازمنة الاخيرة التي تعاصر تحقق العلامات يبلغ ذروته بحيث تنطمس كل ملامح الخير في العالم ، نعم لا نقول ينتهي الخير لان الاخيار موجودين وان كانوا قلة قليلة في كل زمن الا اننا نعني الصفة الغالبة للعنصر البشري والمجتمع الانساني الذي يتحول الى مجتمع ذئاب ووحوش كاسرة لا ينفع معها مبدأ ( اذا ضربك احدهم على خدك فأعرض له الآخر ) وهو مبدأ محترم في وقته والى زمان محدد واما في الازمنة الاخيرة حيث تكشر الذئاب البشرية عن انيابها في المجتمعات المتفسخة والتي تحكمها الانظمة الوضعية في شتى انحاء الأرض فهذا المبدأ يعني الخنوع والخضوع للظلم وعدم اصلاح الأرض بل امساك معول لتهديم اساس بناء مملكة الرب المنتظرة التي يسود فيها العدل كل ربوع المعمورة وهو الافساد والفساد بعينه وهو ضد رسالة المسيح له المجد الذي جاء ليحقق حلم القديسين من الانبياء والرجال الالهيين الذين حلموا على مر التأريخ باليوم الذي ترتسم فيه البسمة على كل شعوب العالم المنسحقة تحت وطأة الظلم الانساني الوحشي للحكام الجبابرة المتغطرسين واذنابهم .
ومن هذا المنطلق نفهم الفحوى والمراد من النص الانجيلي سفر الرؤيا الذي يتحدث عن المسيح كرجل مقاتل !....ويرسم صورة جديدة وغير معهودة للمسيح كحاصد للأرض بمنجله الحاد المدمر ليضع حد للظلم كما قلنا ويرسل الظلم والجور الى حتفهما الى الأبد بواسطة معصرة غضب الرب الموصوفة في النص التالي من الاصحاح الرابع عشر ( ثم نظرت واذا سحابة بيضاء وعلى السحابة جالس شبه ابن انسان له على رأسه اكليل من ذهب وفي يده منجل حاد وخرج ملاك آخر من الهيكل يصرخ بصوت عظيم الى الجالس على السحابة ارسل منجلك واحصد لأنه قد جآءت الساعة للحصاد اذ قد يبس حصيد الأرض ، فألقى الجالس على السحابة منجله على الأرض فحصدت الأرض ) ونلاحظ ان ابن الانسان او شبيه ابن الانسان- الذي يمثل المسيح في عودته الثانية للأرض كما شرحنا مسبقاً - يحمل ذلك السلاح " المنجل " ولا يقصد منه ان الرب يمسك بتلك الآلة الحادة التي تستعمل في الزراعة والحصاد من قبل الفلاحين قديماً وانما هي اشارة من منبع رموز الحكمة التي يغص بها الكتاب المقدس في اسفاره العظيمة الى القتال والى الحروب والآلات الحربية والاسلحة التي سيستخدمها في معركة هرمجدون ضد الشر الاخير ، بمعنى اننا سنشهد نقطة انقلاب تأريخية حيث المسيح له المجد صاحب رسالة السلام يحمل السيف او السلاح ليحصد ، اي يقطف ثمار مملكته المنتظرة ويدوس على اتباع الشر وابليس بقدمه المقدسة لتسيل دماء المجرمين حتى ترتوي الأرض فتسكن دماء النفوس الطاهرة التي سقطت من قبل بسبب سيف الجلادين عبر الازمان ( فألقى الملاك منجله الى الأرض وقطف كرم الأرض فألقاه الى معصرة غضب الله العظيمة وديست المعصرة خارج المدينة فخرج دم من المعصرة ) .
ومن الطبيعي ان كلامنا هذا يعتبر غريب كلياً عن ذهن ومسامع اتباع المسيح حول العالم وسوف يتهمنا البعض ولا شك اننا نعطي صورة مشوهة ونغير الحقائق التاريخية المثبتة لرسالة المسيح المخلص الالهي حين نقول انه سيستخدم العنف والقتل والقتال ضد الظالمين والمفسدين والطغاة والجبابرة واتباعهم وهو طرح يطرح لأول مرة بصراحة على طاولة المبحث الديني الانجيلي الا اننا نعود ونقول ان ما طرحناه مثبت بالنصوص المقدسة ووحي السماء من خلال نصوص الكتاب المقدس الذي يتفق عليه كل طوائف المسيحيين في العالم ولكن الخلل كان ولا زال في فهم حقيقة تلك النصوص والمضامين المطوية بين رموزه الصعبة المنال على العقول البشرية التي الفت التقليد والاتباع الاعمى وتكرار قول المفسرين الكلاسيكيين كالببغاء دون فحص ولا تدقيق ولا مراجعة وبالتالي صارت الحقائق الثابتة لدينا هي ما نقلته تلك المجلدات القديمة من زمان الجيل الاول للكنيسة المسيحية وما بعدها من القرون اللاحقة ، ولكن من البديهي القول ان الاطروحات الدينية الجديدة الموافقة لروح وجوهر الكتاب المقدس مع التزام مبدأ الامانة واحترام النص المقدس لا يتقاطع مع تقدير واحترام الكتابات القديمة الا ان الواضح ان آبائنا السابقين لم يفهموا تلك الروح الانجيلية التي بذرها الرب في كتابه الخالد ، وقدموا لنا صورة ناقصة عن المسيح في المجيء ألثاني فضلاً عن الاول ، والدليل على ما طرحناه من استخدام المسيح للعنف والمعارك والقتال المادي الدامي على الأرض في المجي الثاني هو ما جاء في مواضع اخرى من الانجيل وليس في رؤي يوحنا وحدها لا سيما النص الانجيلي القائل على لسان المسيح له المجد ( لا تظنوا اني جئت لألقي سلاماً على الأرض ، ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً ) والسيف هو رمز آخر يضاف الى رمز المنجل الذي تحدثنا عنه اعلاه ، ويشير الى الحالة العسكرية والقتال التي سيشهدها زمان المسيح الأخير قبل الدينونة التي تغير موازين العالم والقوى في الكون ، واذا كانت النار هي رمز ثالث آخر يضاف لتلك الرموز المحكمة التي يفهمها من عرف روح وجوهر الكتاب المقدس وعلم مقاصد كلام المسيح له المجد تكون المحصلة ثلاثية لا مهرب منها تطوق المفهوم الجديد الذي طرحناه اليوم وهي استخدام المسيح للسيف والاسلحة والقتال المادي على الأرض ليفتح الكون نحو فجر جديد ويقيم المملكة العادلة رغم عن انوف الظالمين حيث جاء في سفر لوقا ( جئت لالقي ناراً على الأرض فماذا اريد لو اضطرمت ) والنار هي رمز للحريق واشعال الحروب لكن ليست تلك التي تسحق الشعوب المظلومة وتحرق الاخضر مع اليابس وانما الحروب التي يأتي معها نصر ويلحقها سلام يعم كل ارجاء الكرة الأرضية التي خلقها الآب لكي يعمرها الانسان لا ليهدمها .
من فكر المسيح العائد

0 التعليقات: